فصل: قال ابن عاشور:

/ﻪـ 
البحث:

هدايا الموقع

هدايا الموقع

روابط سريعة

روابط سريعة

خدمات متنوعة

خدمات متنوعة
الصفحة الرئيسية > شجرة التصنيفات
كتاب: الحاوي في تفسير القرآن الكريم



{وَعَلَى الأعراف} أي أعراف الحجاب أي أعاليه، وهو السور المضروب بينهما جمع عرف مستعار من عرف الدابة والديك.
وقيل: العرف ما ارتفع من الشيء أي أعلى موضع منه لأنه أشرف وأعرف مما انخفض منه.
وقيل: ذاك جبل أحد.
فقد روي عنه صلى الله عليه وسلم: «أحد يحبنا ونحبه وإنه يوم القيامة يمثل بين الجنة والنار يحبس عليه أقوام يعرفون كلًا بسيماهم وهم إن شاء الله تعالى من أهل الجنة».
وقيل: هو الصراط وروي ذلك عن الحسن بن المفضل.
وحكي عن بعضهم أنه لم يفسر الأعراف بمكان وأنه قال: المعنى وعلى معرفة أهل الجنة والنار {رِجَالٌ} والحق أنه مكان والرجال طائفة من الموحدين قصرت بهم سيآتهم عن الجنة وتجاوزت بهم حسناتهم عن النار جعلوا هناك حتى يقضى بين الناس فبينما هم كذلك إذ اطلع عليهم ربهم فقال لهم: قوموا ادخلوا الجنة فإني غفرت لكم أخرجه أبو الشيخ والبيهقي وغيرهما عن حذيفة.
وفي رواية أخرى عنه «يجمع الله تعالى الناس ثم يقول لأصحاب الأعراف: ما تنتظرون؟ قالوا: ننتظر أمرك فيقال: إن حسناتكم تجاوزت بكم النار أن تدخلوها وحالت بينكم وبين الجنة خطاياكم فادخلوها بمغفرتي ورحمتي».
وإلى هذا ذهب جمع من الصحابة والتابعين.
وقيل: هم الأنبياء عليهم الصلاة والسلام أجلسهم الله تعالى على أعالي ذلك السور تمييزًا لهم على سائر أهل القيامة وإظهارًا لشرفهم وعلو مرتبهم.
وروى الضحاك عن ابن عباس أنهم العباس وحمزة وعلي وجعفر ذو الجناحين رضي الله تعالى عنهم يجلسون على موضع من الصراط يعرفون محبيهم ببياض الوجوه ومبغضيهم بسوادها.
وقيل: إنهم عدول القيامة الشاهدون على الناس بأعمالهم وهم من كل أمة حكاه الزهري.
وأخرج البيهقي وابن أبي حاتم وابن مردويه وأبو الشيخ والطبراني وغيرهم أن رسول الله صلى الله عليه وسلم سئل عن أصحاب الأعراف فقال: «هم أناس قتلوا في سبيل الله بمعصية آبائهم فمنعهم من دخول الجنة معصية آبائهم ومنعهم من دخول النار قتلهم في سبيل الله».
وقيل: هم أناس رضي عنهم أحد أبويهم دون الآخر.
وقال الحسن البصري: إنهم قوم كان فيهم عجب.
وقال مسلم بن يسار: هم قوم كان عليهم دين، وقيل: هم أهل الفترة، وقيل: أولاد المشركين، وفي رواية عن ابن عباس رضي الله تعالى عنهما أنهم أولاد الزنا، وعنه أيضًا أنهم مساكين أهل الجنة.
وعن أبي مسلم أنهم ملائكة يرون في صورة الرجال لا أنهم رجال حقيقة لأن الملائكة لا يوصفون بذكورة ولا أنوثة.
وقيل وقيل وأرجح الأقوال كما قال القرطبي الأول وجمع بعضهم بينها بأنه يجوز أن يجلس الجميع ممن ورد فيهم أنهم أصحاب الأعراف هناك مع تفاوت مراتبهم على أن من هذه الأقوال ما لا يخفى تداخله.
ومن الناس من استظهر القول بأن أصحاب الأعراف قوم علت درجاتهم لأن المقالات الآتية وما تتفرع هي عليه لا تليق بغيرهم.
{يَعْرِفُونَ كُلًا} من أهل الجنة والنار {بسيماهم} بعلامتهم التي أعلمهم الله تعالى بها كبياض الوجوه بالنسبة إلى أهل الجنة وسوادها بالنسبة إلى أهل النار.
ووزنه فعلى من سام إبله إذا أرسلها في المرعى معلمة أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه فوزنه عفلى، ويقال: سيماء بالمد وسيمياء ككبرياء.
قال الشاعر:
له سيمياء ما تشق على البصر

ومعرفتهم أن كذا علامة الجنة وكذا علامة النار تكون بالإلهام أو بتعليم الملائكة.
وهذا كما روي عن أبي مجلز رضي الله تعالى عنه قبل أن يدخل أهل الجنة الجنة وأهل النار النار.
واستظهره بعضهم إذ لا حاجة بعد الدخول للعلامة.
ويشعر كلام آخرين أنه بعده والباء للملابسة.
{وَنَادَوْاْ} أي رجال الأعراف {أصحاب الجنة} حين رأوهم وعرفوهم {أَن سلام عَلَيْكُمْ} بطريق الدعاء والتحية أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره {لَمْ يَدْخُلُوهَا} حال من فاعل {نَادُواْ} أو من مفعوله.
وقوله سبحانه: {وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حال من فاعل {يَدْخُلُوهَا} أي نادوهم وهم لم يدخلوها حال كونهم طامعين في دخولها مترقبين له أي لم يدخلوها وهم في وقت عدم الدخول طامعون قاله بعضهم.
وفسر الطمع باليقين الحسن وأبو علي وبه فسر في قوله تعالى حكاية عن إبراهيم عليه السلام: {والذى أَطْمَعُ أَن يَغْفِرَ لِى خَطِيئَتِى} [الشعراء: 82].
وفي الكشاف أن جملة {لَمْ يَدْخُلُوهَا} إلخ لا محل لها لأنها استئناف كأن سائلًا سأل عن حال أصحاب الأعراف فقيل: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} وجوز أن يكون في محل الرفع صفة لرجال وضعف بالفصل. اهـ.

.قال القاسمي:

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ} أي: بين الفريقين سور وستر، أو بين الجنة والنار، ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الأخرى.
وقد سمي هذا الحجاب سورًا في آية: {فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بَابٌ بَاطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَظَاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذَابُ}، وقوله تعالى: {وَعَلَى الأَعْرَافِ رِجَالٌ} أي: على أعراف الحجاب وشرفاته وأعاليه، وهو السور المضروب بينهما، جمع عرف، مستعار من عرف الفرس، وعرف الديك، وكل ما ارتفع من الأرض عرف، فإنه بظهوره أعرف مما انخفض.
وقد حكى المفسرون أقوالًا كثيرة في رجال الأعراف، عن التابعين وغيرهم، أنهم فضلاء المؤمنين، أو هم الشهداء، أو الأنبياء، أو قوم أوذوا في سبيل الله، فاطّلعوا على أعدائهم ليشمتوا بهم، فعرفوهم بسيماهم، وسلموا على أهل الجنة.
واللفظ، لإبهامه، يحتمل ذلك؛ لأن السياق يدل على سمو قدرهم، لاسيما بجعل منازلهم الأعراف، وهي الأعالي، والشرف، كما تقدم ومن ذكر كلهم جديرون بذلك- والله أعلم-.
{يَعْرِفُونَ كُلًا} أي: من أهل الجنة والنار {بِسِيمَاهُمْ} أي: بعلامتهم التي أعلمهم الله بها، كبياض الوجه وسواده.
فائدة:
السيما مقصورة وممدودة، والسيمة والسيمياء بكسرهن العلامة.
قال القاضي: السيمى فعلى من سام إبله، إذا أرسلها في المرعى معلمة، أو من وسم على القلب كالجاه من الوجه. انتهى.
وعلى الثاني اقتصر ابن دريد: {وَنَادَوْاْ} أي: رجال الأعراف: {أَصْحَابَ الْجَنَّةِ} أي: حين رأوهم من أعرافهم، وقد عرفوهم من سيماهم أنهم أهل الجنة {أَن سَلاَمٌ عَلَيْكُمْ} بطريق الدعاء والتحية، أو بطريق الإخبار بنجاتهم من المكاره.
والوجه الأول هو المأثور عن ابن عباس رضي الله عنه فيما رواه عنه العوفي.
قال رضي الله عنه: أنزلهم الله بتلك المنزلة ليعرفوا من في الجنة والنار، وليعرفوا أهل النار بسواد الوجوه، يتعوذوا بالله أن يجعلهم مع القوم الظالمين، وهم في ذلك يحيون أهل الجنة بالسلام: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} الضميران في الجملتين لأصحاب الأعراف، والأولى حال من الواو، والثانية حال من فاعل {يَدْخُلوها}، أي: نادوهم وهم لم يدخلوا الجنة بعد، حال كونهم طامعين في دخولها، مترقبين.
قال الجشمي رحمه الله: قيل: إذا كان أصحاب الأعراف أفاضل المؤمنين، فلم تأخر دخولهم؟ قلنا: هم تعجلوا اللذة بالشماتة من الأعداء وإن تأخر دخولهم، لظهور فضلهم، وجلالة طريقهم إلى منازلهم.
ولا يبعد عندي أن تكون جملة: {لَمْ يَدْخُلُوهَا وَهُمْ يَطْمَعُونَ} حالًا من: {أصحاب الجنة} أي: نادوهم بالسلام وهم في الموقف على طمع دخول الجنة يبشرونهم بالأمان والفوز من العذاب، إشارة إلى سبق أهل الأعراف على غيرهم في دخول الجنة، وعلو منازلهم على سواهم- والله أعلم-.
وذهب أبو مجلز إلى أن الضميرين لأصحاب الجنة، أي: نادى أهل الأعراف أصحاب الجنة بالسلام، حال كون أصحاب الجنة لم يدخلوها وهم يطمعون في دخولها، وهو وجه جيد، فالجملة الأولى حال من المفعول وهو أصحاب الجنة، والثانية حال من فاعل يدخلوها. اهـ.

.قال ابن عاشور:

{وَبَيْنَهُمَا حِجَابٌ وَعَلَى الْأَعْرَافِ رِجَالٌ يَعْرِفُونَ كُلًّا بِسِيمَاهُمْ}
تقديم {وبينهما} وهو خبر على المبتدأ للاهتمام بالمكان المتوسّط بين الجنّة والنّار وما ذكر من شأنه.
وبهذا التّقديم صحّ تصحيح الابتداء بالنّكرة، والتّنكير للتّعظيم.
وضمير {بينهما} يعود إلى لفظي الجنّة والنّار الواقعين في قوله: {ونادى أصحاب الجنة أصحاب النار} [الأعراف: 44] وهما اسما مكان، فيصلح اعتبار التّوسّط بينهما.
وجُعل الحجاب فصلًا بينهما.
وتثنية الضّمير تُعيِّن هذا المعنى، ولو أريد من الضّمير فريقَا أهللِ الجنّة وأهل النّار، لقال: بينهم، كما قال في سورة الحديد (13) {فضرب بينهم بسور} الآية.
والحجاب: سور ضُرب فاصلًا بين مكان الجنّة ومكان جهنّم، وقد سمّاه القرآن سورًا في قوله: {فضرب بينهم بسور له باب} في سورة الحديد (13)، وسمّي السور حجابًا لأنّه يقصد منه الحجب والمنع كما سمّي سورًا باعتبار الإحاطة.
والأعراف: جمع عُرْف بِضّم العين وسكون الرّاء، وقد تضمّ الرّاء أيضًا وهو أعلى الشّيء ومنه سمّي عُرف الفرس، الشّعر الذي في أعلى رقبته، وسمّي عُرف الدّيك.
الرّيش الذي في أعلى رأسه.
وأل في الأعراف للعهد.
وهي الأعراف المعهودة التي تكون بارزة في أعالي السّور.
ليرقب منها النظَّارة حركات العد وليشعروا به إذا داهمهم.
ولم يسبق ذكر للأعراف هنا حتّى تعرّف بلام العهد، فتعيّن أنّها ما يعهده النّاس في الأسوار.
أو يجعل ألْ عوضًا عن المضاف إليه: أي وعلى أعراف السّور.
وهما وجهان في نظائر هذا التّعريف كقوله تعالى: {فإن الجنة هي المأوى} [النازعات: 41] وأيًّا مّا كان فنظم الآية يأبى أن يكون المراد من الأعراف مكانًا مخصوصًا يتعرّف منه أهل الجنّة وأهل النّار، إذ لا وجه حينئذٍ لتعريفه مع عدم سبق الحديث عنه.
وتقديم الجار والمجرور لتصحيح الابتداء بالنّكرة، إذ اقتضى المقام الحديث عن رجال مجهولين يكونون على أعراف هذا الحجاب، قبل أن يدخلوا الجنّة، فيشهدون هنالك أحوال أهل الجنّة وأحوال أهل النّار، ويعرِفون رجالًا من أهل النّار كانوا من أهل العزّة والكبرياء في الدّنيا، وكانوا يكذّبون وعد الله المؤمنين بالجنّة، وليس تخصيص الرّجال بالذّكر بمقتض أن ليس في أهل الأعراف نساء، ولا اختصاص هؤلاء الرّجال المتحدّث عنهم بذلك المكان دون سواهم من الرّجال، ولكن هؤلاء رجال يقع لهم هذا الخبر، فذكروا هنا للاعتبار على وجه المصادفة، لا لقصد تقسيم أهل الآخرة وأمكنتهم، ولعلّ توهّم أنّ تخصيص الرّجال بالذّكر لقصد التّقسيم قد أوقع بعض المفسّرين في حيرة لتطلّب المعنى لأنّ ذلك يقتضي أن يكون أهل الأعراف قد استحقّوا ذلك المكان لأجل حالة لاحظّ للنّساء فيها، فبعضهم حمل الرّجال على الحقيقة فتطلب عملًا يعمله الرّجال لاحظ للنّساء فيه في الإسلام، وليس إلاّ الجهاد، فقال بعض المفسرين: هؤلاء قوم جاهدوا وكانوا عاصين لآبائهم، وبعض المفسّرين حمل الرّجال على المجاز بمعنى الأشخاص من الملائكة، أطلق عليهم الرّجال لأنّهم ليسوا إناثًا كما أطلق على أشخاص الجنّ في قوله تعالى: {وأنه كان رجال من الإنس يعوذون برجال من الجن} [الجن: 6] فيظهر وجه لتخصيص الرّجال بالذّكر تبعًا لما في بعض تلك الأحاديث التي أشرنا إليها.